في تمام الساعة 1:23 من صباح السادس والعشرين من أبريل عام 1986م. تم إيقاف النظام لمدة 20 ثانية في مفاعل تشيرنوبل النووي الذي يبعد 130كم عن العاصمة الأوكرانية كييف. إيقافٌ كانت الغاية منه اختبار انقطاع التيار الكهربائي، ولكنّ خطأً في التشغيل بعد إغلاق توربينات المياه المستخدمة في تبريد اليورانيوم، أدى إلى ارتفاع حرارته بالمفاعل رقم 4 إلى درجة الاشتعال.
اشتعالٌ لم يقتصر على انفجار المفاعل وإطلاق أكثر من 520 نويدة مشعة، بل سيكون سبباً في أكبر تسرب نووي في العالم، ووداع أهالي تشيرنوبل لمدينتهم إلى الأبد.
أسباب التسرب النووي في تشيرنوبل
كان السبب الرئيسي في وقوع الكارثة، هو خطأ في التصميم والتشغيل. إضافةً لعدم وجود تدابير أمان كافية لتجنب هكذا حوادث. وربما تقع المسؤولية على من سمح للعاملين في المحطة بتجاهل إجراءات الأمان والسلامة المطلوبة.
لحظة إدراكه للمصيبة، حاول رئيس الفريق المناوب إغلاق المفاعل، لجعل أعمدة الغرافيت تنزل بداخله وتبطئ سرعة التفاعل. ولكنّ تلك العملية كانت سبباً في زيادة الحرارة قبل أن تبدأ بالانخفاض. فارتفعت الحرارة بشكل كبير موصلةً بعض الغازات إلى درجة اشتعالها، ومحدثةً أكبر تسرب نووي شهده البشر.
غرفة التحكم في محطة تشيرنوبل |
الآثار البيئية والصحية لكارثة تشيرنوبل النووية
لا يخفى على أحدٍ حجم الأضرار البيئية والصحية الكبير، الذي خلّفته كارثة تشيرنوبل. لقي 31 شخصاً حتفهم لحظة وقوع الانفجار، وتعرض 600 ألف شخص من المشاركين في عمليات الإطفاء والتنظيف لحرائق خطيرة وجرعات عالية من الإشعاع، ربما كانت سبباً في تقصير أعمارهم أو وفاتهم بأمراضٍ قاتلة كالسرطان، خلال بضعة سنوات أخرى يعيشونها. تعرض ما يقرب من 8,4 مليون شخص للإشعاع في أوكرانيا والدول المجاورة. 155 ألف كم² من الأراضي تعرضت للتلوث. 52 ألف كم² من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للزراعة. لتدرك حجم التلوث يكفي أن تعلم أن الإشعاع عبر أوروبا وتم رصده في دول بعيدة مثل السويد.
تم إخلاء مدينة تشيرنوبل، إلا أنّ الملايين ما زالوا يعيشون في مناطق تستمر فيها بقايا الإشعاع النووي في التسبب بأضرار لا يستهان بها. استمر ما يُقدّر بـ350 ألف منظف من موظفي المحطة وعناصر الجيش والشرطة ورجال الإطفاء، خلال السنة الأولى بعد الحادثة، في محاولاتٍ يائسة تهدف لاحتواء الحطام المشع وإزالته. كانت النتيجة تعرّض 240 ألف شخصٍ منهم لجرعات عالية من الإشعاع. في المنطقة المحيطة بالمفاعل والتي تمتد على مسافة 30كم. وفي ربيع وصيف عام ستةٍ وثمانين، تم إجلاء 116 ألف شخص من محيط المفاعل و230 ألف آخرين في الأعوام اللاحقة. ورغم إجلاء أعدادٍ كبيرة، لا يزال حتى يومنا هذا يعيش حوالي خمسة ملايين نسمة تحت وطأة ترسّب السيزيوم المشع. ولا يزال حوالي 270 ألفاً يعيشون في مناطق صنفها الاتحاد السوفييتي على أنها تحت رقابةٍ شديدة.
استجابة المجتمع الدولي لكارثة تشيرنوبل
في الوقت الذي كانت به العناصر المشعة تفتك بمواطني وأراضي الاتحاد السوفييتي. بعد حدوث التسرب النووي في تشيرنوبل. كانت السلطات تتعامل مع الحادثة بتكتّمٍ شديد. ولكنّ الإشعاع لا يعرف الحدود فبدأ يمتدّ إلى أوروبا. رغم ذلك وخلال الأربع سنواتٍ الأولى من الكارثة، قرر السوفييت التعامل مع الأزمة دون اللجوء إلى طلب المساعدة من الأمم المتحدة، التي سعت إلى تقديم الدعم وتقييم السلامة النووية وبيئة المنطقة الملوثة. وتم التركيز على زيادة الوعي لأهالي المناطق المعنية بالتلوث، لحماية أنفسم ومنتجاتهم الزراعية.
اعترفت الحكومة السوفييتية بحاجتها للمساعدة أخيراً عام 1990م، فقامت الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتماد القرار 45/190 والذي ينص على التعاون الدولي في معالجة الآثار الناجمة عن حادثة محطة تشيرنوبل للطاقة النووية وتخفيفها.
وتم وضع برنامج لتنسيق الأنشطة التي ستقوم بها المؤسسات التابعة للأمم المتحدة وتم التعاون والتنسيق مع وزراء خارجية كلاً من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا لاحتواء الأزمة. وتمّ في عام 1992م إنشاء الصندوق الإستئماني لتشيرنوبل بغية جمع المساعدات المالية لدعم الأنشطة المتعلقة بحادثة التسرب.
فيما بعد قدمت عدة دول المساعدة بمختلف الطرق. فتم إنشاء موقع ويب تموله سويسرا. ويعتبر الموقع الذي بادرت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية، منتدى مستقل يهدف إلى طرح الآراء في مختلف القضايا المثيرة للجدل وتحليل الأدلة العلمية والاستفادة منها في مجال الصحة والبيئة.
الحرب الروسية الأوكرانية ومفاعل تشيرنوبل النووي
في فبراير عام 2022م سيطرت القوات الروسية على مفاعل تشيرنوبل النووي، الذي شهد ارتفاعاً في مستوى الإشعاع خلال الغزو الروسي يقدّر بـ20 ضعفاً حسب محطات المراقبة. حيث يتعرض الفرد لجرعة إشعاع تقدر بـ3 ميكروزيفرت، وهي واحدة قياس الإشعاع النووي. في حين ارتفعت إلى 65 ميكروزيفرت في الساعة، وهو ما يشير إلى 20ضعفاً. وحسب هيئة التفتيش الحكومية التنظيمية النووية في أوكرانيا. فإنّ ارتفاع مستوى الإشعاع يرجع إلى حركة المركبات العسكرية الثقيلة. التي تثير الأتربة والغبار الملوّث في المنطقة المحيطة بمحطة الطاقة النووية. في حين يستبعد خبراء احتمال وقوع كارثة أخرى في المنطقة. وقالت كلير كورخيل خبيرة المواد النووية بجامعة شيفيلد لبي بي سي إنّ موقع محطة تشيرنوبل يحتوي على عدة مخازن لاحتواء النفايات النووية، منها ما يعرف باسم "حاجز تشيرنوبل الآمن الجديد". والذي يغطي المفاعل رقم 4 الذي انفجر قبل سبعة وثلاثين عاماً. وأضافت أنّ هذه المباني مصممة لاحتواء المواد المشعة بداخلها لمنع انتشارها، ولكنها غير مصفّحة ولم تُصمّم للتشغيل أثناء الحروب.
وكتب خبير السياسة النووية جيمس أكتون أنّ مفاعل تشيرنوبل يقع في منطقة غير مأهولة بالسكان. لكن هناك مفاعلات نووية أخرى في أوكرانيا لا تقع في مناطق معزولة.
دروس علينا تعلمها من حادثة التسرب النووي في تشيرنوبل
لعلّ تشيرنوبل أضحت رمزاً للكوارث النووية وتذكير مأساوي بنتائج الاستهانة بمخاطر هذه الطاقة. لذلك على أي دولة تحتوي على مفاعلات نووية، إعطاء الأمر أهمية كافية. نرفق لكم بعض الأعمال التي ربما كانت ستساهم بشكلٍ أو بآخر في الحد من المأساة التي استمرت لعقود:
- أهمية السلامة والالتزام بالمعايير الدولية
ربما لو تم الالتزام بذلك والابتعاد عن الأفعال الارتجالية لما حدث انفجار تشيرنوبل، فقبل إجراء اختبار معيّن في المفاعل، كان من المفترض أن تتم دراسة نتائج ذلك وفق أبحاثٍ علمية.
- الشفافية والتعاون الدولي
سياسة الاتحاد السوفييتي جعلته يرفض أي مساعدات خارجية، لاسيما أنها ستأتي من الدول التابعة للمعسكر الغربي. ولم تعترف السلطات بحاجتها لتقديم الدعم إلا بعد عدة سنوات. فعندما يتعلق الأمر بحياة الملايين من الناس، وتهديد مئات آلاف الكيلومترات من الأراضي الزراعية، لابدّ من وضع الخلافات جانباً.
- تطوير التقنيات المستخدمة
قبل أن نفكر بإنشاء مفاعل نووي، علينا التفكير بحمايته وعزله عن المناطق المحيطة وتصميمه لمقاومة الزلازل والحروب، وهنا يأتي دور المهندسين، فلو كان مفاعل تشيرنوبل مصمماً للعمل تحت ظروف الحرب، لما رأينا مخاوفاً تنتشر من وقوع كارثةٍ جديدة.
- توفير بدائل للطاقة
يمكن التحول إلى الطاقات المتجددة والبديلة، كالطاقة الشمسية، وتطوير تقنيات الطاقة النظيفة لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية.
على الرغم من التحسينات التي تم إجراءها على تقنية الطاقة النووية منذ حدوث كارثة تشيرنوبل، إلا أن هذه التقنية لا تزال تنطوي على مخاطر كبيرة وتتطلب احتراماً كاملاً للمعايير الدولية الصارمة للسلامة والأمن النووي. لذلك يجب أن نستفيد من دروس كارثة تشيرنوبل ونتعلم منها لتحسين سلامة وأمن التكنولوجيا النووية في المستقبل.