بات القلق العالمي من تزايد تشخيص مرض الخرف مع تقدم سكان العالم بالعمر مرتفعاً. ففي كل عام يتم تسجيل أكثر من 10 ملايين حالة إصابة جديدة بمرض الخرف حول العالم، وهو ما يجعل هذه القضية صحية وإنسانية ملحّة بشكل كبير لإيجاد حلول.
ولكن وفقاً لدراسة نشرت في نوفمبر 2024م في مجلة The American Journal of Medicine؛ قد لا يكون تشخيص مرض الخرف في جميع هذه الحالات هو التشخيص الصحيح. بل إن ما يصل إلى 13% منها في الولايات المتحدة فقط قد تعاني من حالة مرضية مختلفة وقابلة للعلاج تُعرف باسم "الاعتلال الدماغي الكبدي"!
أولاً: ما هو مرض الخرف؟
يُعرف مرض الخرف (Dementia) بأنه اضطراب تدريجي يؤثر على القدرات العقلية والإدراكية للفرد. ويتسبب في تراجع في الذاكرة واللغة والتفكير مع ضعف في القدرة على أداء الأنشطة اليومية. وهو ليس مرضاً بحد ذاته إنما مجموعة من الأعراض الناتجة عن تلف خلايا الدماغ.
وإلى يومنا هذا لا يوجد علاج شافٍ لهذا المرض، ولكن توجد أدوية تبطئ تطور الأعراض بالإضافة إلى برامج التأهيل الذهني والسلوكي.
ثانياً: ما هو الاعتلال الدماغي الكبدي؟
مرض الاعتلال الدماغي الكبدي هو اضطراب في الدماغ ينشأ بسبب فشل الكبد في تنقية الدم من السموم. يؤثر على أكثر من 40% من مرضى تليف الكبد المتقدم، وقد يُظهر أعراضاً مشابهة تماماً للخرف. كفقدان الذاكرة والارتباك والهلوسات وحتى الرعاش والسقوط. وبسبب هذا التشابه الكبير في الأعراض فإن تشخيص الخرف الخاطئ أمر وارد جداً.
يقول الدكتور جاسموهان باجاج، اختصاصي الكبد في جامعة فرجينيا كومنولث: "يجب أن يكون مقدمو الرعاية الصحية على دراية بالتداخل المحتمل بين تشخيص مرض الخرف وتشخيص الاعتلال الدماغي الكبدي، لأنه مرض يمكن علاجه على عكس الخرف".
كيف تم تشخيص مرض الخرف بشكل خاطئ؟
في الدراسة المنشورة عام 2024م قام الدكتور باجاج وزملاؤه بمراجعة سجلات طبية لـ177,422 من المحاربين القدامى الأمريكيين الذين تم تشخيصهم بالخرف ما بين عامي 2009م و2019م. والمفاجأة الصادمة كانت أن أكثر من 10% من هؤلاء لم يتم تشخيصهم بأي مرض كبدي. ولكن تحاليلهم الطبية أظهرت معدلات مرتفعة في مقياس "FIB-4"؛ وهو مؤشر معتمد لتقدير تليف الكبد.
وفي دراسة تكميلية نُشرت عام 2025م أيضاً في مجلة The American Journal of Medicine، كرر الباحثون التحليل على قاعدة بيانات وطنية شملت 68,807 شخصاً من غير المحاربين القدامى. ووجدوا أن قرابة 13% من الحالات قد يكون لديها مؤشرات على مرض كبدي مزمن غير مُشخّص. أي أن تشخيص مرض الخرف الخاطئ قد يكون أكثر انتشاراً مما كان يُعتقد.
هل يمكن علاج هذا الاعتلال؟
نعم يمكن، ففي بعض الحالات التي خضعت للعلاج تم عكس الأعراض المعرفية بشكل شبه كامل. على سبيل المثال تروي زوجة أحد المرضى الذين كانوا قد تم تشخيصهم بالاعتلال الدماغي الكبدي؛ أن زوجها بعد العلاج أصبح وكأنه "شخص مختلف". إذ اختفت مشكلات فقدان الذاكرة والسقوط والهلوسات التي كانت تلازمه. وهذه الحالات تؤكد أن تشخيص مرض الخرف الخاطئ يمكن أن يحرم المرضى من فرصة استعادة وظائفهم الإدراكية واستعادة حياتهم الطبيعية.
الفوارق العرقية تلعب دوراً هاماً في تشخيص مرض الخرف الخاطئ
لاحظت الدراسة أيضاً أن نسبة أعلى من المرضى ذوي "FIB-4" المرتفع لم يكونوا من ذوي البشرة البيضاء، وهو ما يسلط الضوء على فجوات في فرص الحصول على الرعاية الصحية. حيث قال الباحث سكوت سيلفي المشارك بالبحث: "لم ندرس الأسباب المحددة وراء هذه الفوارق، لكن من المحتمل أن نقص الوصول إلى العلاج والرعاية المناسبة في حالات الخرف والأمراض المرافقة يساهم في ذلك".
الكبد.. حارس توازن الجسم والدماغ
يلعب الكبد دوراً حيوياً في تنظيم المواد الكيميائية في الجسم، من تنقية السموم إلى المساعدة في الهضم. وعندما يبدأ الكبد بالفشل يتعرض الدماغ والعديد من الأعضاء الأخرى كالكليتين والبنكرياس والقلب لضغط كبير. ومن هنا فإن ربط صحة الدماغ بصحة الكبد أمر منطقي وضروري. حيث يقول الدكتور باجاج حول هذا الأمر: "هذا الارتباط بين الخرف وصحة الكبد يُبرز أهمية فحص المرضى للبحث عن مسببات قابلة للعلاج للتدهور المعرفي".
هل يمكن الوقاية من حالات تدهور وتليف الكبد؟
الخبر الجيد من هذه الدراسة أن العديد من حالات تليف الكبد يمكن الوقاية منها أو حتى عكسها إذا تم تشخيصها مبكراً. وتشمل العوامل الخطرة التي تؤدي إلى تدهور وظائف الكبد كل من: (شرب الكحول، التهاب الكبد الفيروسي، ارتفاع الكوليسترول، السمنة، داء السكري، التوتر المزمن، التقدم في العمر).
تقول الدكتورة آنا ماي من جامعة ديوك في دراسة أجريت على الفئران حول هذا المرض: "لقد أثبتنا أن التقدم في السن يزيد من حدة أمراض الكبد غير الكحولية.. وإذا قمنا بتقليل هذا الأثر يمكننا عكس الضرر".
التفريق بين المرضين يزيد فرصة نجاة الأشخاص
ختاماً.. هذا الاكتشاف العلمي يعيد تسليط الضوء على العلاقة المعقدة بين وظائف الكبد وصحة الدماغ، ويطرح تساؤلات مهمة حول دقة تشخيص التدهور المعرفي لدى كبار السن.
وكما رأينا فإن الأدلة تشير إلى أن نسبة معتبرة من الأشخاص الذين شُخّصوا بالخرف قد يعانون بالحقيقة من مرض قابل للعلاج. وهو أمر يتطلب من المختصين حول العالم إعادة تقييم المعايير المعتمدة للتشخيص. فتحسين أدوات الفحص والتوسع في استخدام مؤشرات مثل "FIB-4"، بالإضافة إلى تعزيز وعي الأطباء بصحة وأمراض الكبد، قد يحدث فرقاً كبيراً في حياة الآلاف من المرضى.
تشخيص مرض الخرف بشكل خاطئ ليس مجرد خطأ طبي؛ بل فرصة ضائعة لإنقاذ عقول وحيوات.